الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الإنافة فيما جاء في الصدقة والضيافة **
الثلاثون اختلف العلماء المتقدمون والمتأخرون في أن
والذي رجحه الغزالي في موضع أن الغني الشاكر أفضل وهذا هو الذي عليه الأكثرون واختاره العز بن عبد السلام وتبعه تلميذه ابن دقيق العيد فقال: إنه الظاهر القريب من النص. وأطال الغزالي في الاستدلال له قال: وهو الذي نفسه كنفس الفقير ولا يصرف لنفسه إلا قدر الضرورة ويصرف الباقي في وجوه الخيرات أو يمسكه معتقدا أنه يمسكه خازنا للمحتاجين ينتظر حاجة حتى يصرفه فيها لله تعالى فهذا هو الغني الشاكر الذي الخلاف فيه. ورجح في موضع آخر ما عليه أكثر الصوفية أن الفقير الصابر أفضل وأشار إلى أن الخلاف في الفقير الذي يجد مرارة الصبر. والفقير الراضي الذي لا يجده مرارة الفقير الشاكر الذي بحلول الفقير فهو أفضل قطعا. واستدل ابن عبد السلام وغيره لما رجحوه من أن الغني الشاكر أفضل بأنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم استعاذ من الفقر. قال: ولا يجوز حمله على فقر النفس لأنه خلاف الظاهر بغير دليل وبأن أخرجا له صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الغني بخيبر وفدك والعوالي وأموال بني النضير وغيرها. وكذا من تأخر من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم. وإذا كان أغلب أحواله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الفقر إلى أن أغناه الله تعالى بما ذكر لأن الأنبياء والأولياء لا يأتي عليهم يوم إلا والذي بعده خير منه. وقد ختم أمره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالغني ولم يخرجه عما كان يتعاطاه في فقره من البذل لا يقال انتصارا للثاني إنما استعاذ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من الفقر لأنه مصيبة من مصائب الدنيا والغنى نعمة من نعمها فور أنهما الرضى والعافية فكون الرضى فيه الثواب لا يمنع سؤال العافية. وأيضا فالذي اختاره الله تعالى لنبيه وجمهور صحابته هو الفقر غير المدقع. وأيضا فالفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء وبخمسمائة عام وأصحاب الأموال محبوسون على قنطرة يسألون عن فضول أموالهم. لأنا نقول الجواب: أما عن الأول فهو أنه لا دلالة فيه لترجيح أفضلية الفقير الصابر كماهو ظاهر. وأما عن الثاني فهو أنه مردود بما مر من أن الذي ختم به أمره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هو الغنى. أما عن الثالث فهو أنه فرض الكلام في الأغنياء الذين هم ليسوا من محله الخلاف لأنهم المحبوسون يسألون عن فضول أموالهم فيما أنفقوها والغني الذي الكلام فيه قد أخرج ماله جميعه لله تعالى في الذي يسأل عنه على أن سبق الدخول إلى الجنة لا يدل على الأفضلية بل قد يكون التأخر لمزية تظهر لذلك المتأخر في الموقف حتى يشاهدها الحاضرون ثم ويظهر تميزه بها على من دخل قبله وبعده. إذا كان محتاجا إلى ما عنده لنفقة نفسه أو عياله فقيل لا تسن له صدقة التطوع ولا تكره وبه قطع الماوردي والغزالي وجماعات من الخراسانيينس وتابعهم الرافعي وظاهر نص المختصر يوافقهم ولفظه: أحب أن يبدأ بنفسه ثم بمن يعول لأن نفقة من يعول فرض والفرض أولى به من النفل ثم بقرابته ثم من يشاء. وعبارة الماوردي: صدقة التطوع قبل أداء الواجبات من الزكاة والكفارات وقبل الإنفاق على من تجب نفقتهم من الأقارب والزوجات غير مستحبة ولا مختارة واستدلوا بالإبحاثة بحديث الصحيحين وغيرهما: (أن رجلا من الأنصار بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه وقال لامرأته نومي الصبيان وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك فنزلت هذه الآية وقيل يكرهس وبه قطع المتولي. والثالث هو الأصح عند النووي وغيره حرمة الصدقة وبه قطع الشيخ أبو إسحاق في المهذب والتنبيه وشيخه القاضي أبو الطيب والدارمي وابن الصباغ والبغوي وصاحب البيان وآخرون. قال في المجموع بعد ذكره ذلك والجواب عن الحديث الذي احتج به الأولون من وجهين: أحدهما: أن هذا ليس من باب صدقة التطوع إنما هو من باب الضيافة والضيافة لا يشترط فيها الفضل على عياله ونفسه لتأكدها وكثرة الحث عليها حتى أن جماعة من العلماء أوجبوها. الثاني أنه محمول على أن الصبيان لم يكونوا محتاجين بل كانوا قد أكلوا حاجاتهم وأما الرجل وامرأته فتبرعا بحقهما وكانا صابرين فرحين بذلك ولهذا جاء في الآية والحديث الثناء عليهما. وقوله: (نومي صبيانك لا يدل على أنهم كانوا جياعا لأنهم لا يتركون الأكل عند حضور الطعام وإن كانوا غير جياع فخاف إن بقوا مستيقظين أن يطلبوا الأكل على العادة فينكدوا عليهما وعلى الضيف لقلة الطعام). انتهى. وما ذكره من أن الضيافة لا يشترط فيها الفضل خالفه في شرح مسلم فيسوي بينها وبين الصدقة في تحريمها بما يحتاجه ولعل هذا أقرب وإن مشى جمع متأخرون على ما في المجموع من الفرق بينهما ووجه ترجيحي بما في شرح مسلم أن نفقة عياله أكد لوجوبها إجماعا بخلاف الضيافة سيما والكلام إنما هو في شافعي وهو لا يعتقد وجوبها فكيف يقدم ما لا يعتقد وجوبه على ما هو واجب عليه بالإجماع ولو كان الفرد في مجرد التقديم مع عدم فوات الواجب الآخر الذين تلزمه نفقتهم بالإجماع فنتج أن حقهم أقوى وألصق به فتعين تقديمهم وعلى ما في المجموع. فيتعين تقيد الضيف بما إذا لم يؤد ذلك إلى إلحاق ضرر بهم لا يطاق عادة والأوجب تقديمهم اتفاقا فيما يظهر في عيال غير بالغين أو غيره عقلا أما البالغون العقلاء إذا رضوا بتقديم غيرهم عليهم فالأفضل التصدق كما بحثه في المطلب وصرح به ابن عصرون في كلامه على قصة الصديق رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه في تصدقه بجميع ماله والذي يتجه أن محل ذلك فيمن يصبرون عليها فنهاية أمرهم أنهم كالمتصدق إذا أراد أن يتصدق بما يحتاجه لنفسه وحكمه أنه صبر على الإضافة يسن له التصدق بجميع الفاضل عن كفايته وإن لم يصبر حرم عليه فإذا جرى هذا التفضيل في المتصدق نفسه فأولى أن يجري في مؤنة البالغ العاقل إذا رضي ثم المراد بكفايته إن لم يصبر على الإضافة وبكفاية من تلزمه مؤنة كفاية يوم وليلة وكسوة فصل فهذا هو الذي يحرم التصدق به دون ما زاد عليه هذا هو الظاهر الذي قاله جماعة أخذا من كلام الإحياء وليس المراد بذلك ما يكفيهم حالا فقط ولا ما يكفيهم سنة. قال الأذرعي: قد يقال يدخر لنفسه وعياله قوت سنة ولا يتصدق بالفاضل إذا لم يتوقع حصول شيء قبل مضي عام. وأيده غيره لقوله في الروضة في السير عن الإمام وأقره يجب على الموسر من المواساة بما زاد على كفاية سنة. انتهى. ولك أن تقول إن أراد الأول أخذا من جواز التصدق بل ندبه على ما زاد عن كفاية يوم وليلة وكسوة فصل. وما في الروضة لا يدل للأذرعي لأن وجوب البذل يحتاط له أكثر فلا يلزم من اعتبار السنة اعتبارها في المطلوب الذي هو صدقة التطوع. بقوله لا يتصدق بالفاضل. إلخ أن التصدق بشيء من نفقة السنة حرام كان بعديا جدا ومخالفا لكلامهم وإن أراد كراهة التصدق بذلك كان له نوع اتجاه لكن الظاهر وما ذكرته من حرمة التصدق بما يحتاجه الإنسان لنفسه إذا لم يصبر على الإضافة هو المعتمد وأما في الروضة من عدم التحريم واغتر به جماعة فمحمول على من صبر على الإضافة كما أفاده كلام المجموع وعلى الأول أعني الحرمة مع عدم التبصر حرام على ما قالوه في التيمم من حرمة إيثار عطشان آخر بالماء وعلى الثاني أعني الحل مع الصبر حمل ما قالوه في الأطعمة من أن للمضطر أن يؤثر على نفسه مضطرا آخر مسلما أما ما فضل عن حاجة نفسه ومؤنة يومهم وليلتهم وكسوة فصلهم فيسن التصدق بجميعه إن صبر على الإضافة وإلا كره كما في المهذب وغيرهس. وعلى هذا التفصيل جملة الأخبار المختلفة منها الخبر الصحيح أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه تصدقن بجميعب ماله فأثنى عليه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بذلك. والخبر الصحيح أن رجلا جاء بمثل البيضة من ذهب وقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عنه إلى أن أعاد عليه القول ثلاث مرات ثم أخذها ورماه بها رمية لو أصابته لأوجعته ثم قال: يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يتكفف وجوه الناس. خير الصدقة ما كان على ظهر غنى أي غنى النفس وصبرها على الفقر وخرج بجميع الفاضل بعضه فيسن التصدق مطلقا إلا أن يكون قدرا يقارب الجميع فالأوجه جريان التفصيل السابق فيه. الثانية والثلاثون محل ما تقرر في الحادية والثلاثين فيمن لا دين عليه أما من عليه دين سواء طلب منه أم لا كما هو ظاهر فيحرم عليه التصدق بما يحتاجه لوفائه كما قاله صاحب المهذب وشيخه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والبغوي وآخرون يكره. وقال الماوردي والغزالي وقال المتولي وآخرون لا يستحب. قال في المجموع بعد حكاية ذلك والمختار أنه إن غلب على ظنه حصول الوفاء من جهة أخرى فلا بأس بالصدقة وقد يستحب وإلا فلا وعلى هذا التفصيل يحمل كلام الأصحاب المطلق. وظاهر أن إبراء المدين من دين له على آخر مع احتياجه لقبضه منه في وفاء دينه حرام أيضا لكن إن كان المدين المبرء مليا مقرا أو عليه بينة به وغلبه من ظن حصول الوفاء من جهته يستلزم كونها ظاهرة الذي قيد به الغزالي وغيره فلا اعتراض على المجموع في حذف هذا القيد لما علمت أن تعبيره بغلبة ظن الحصول من جهة تستلزم ظهورها نعم قول المجموع فلا بأس أن يستثنى منه ما إذا حصل بذلك تأخير وقد وجب وفاء الدين فورا بمطالبة أو غيرها أي ككونه عصى بسببه أو كان ليتيم ونحوه ولا مانع من الدفع فالوجه كما قاله الأذرعي وغيره وجوب المبادرة إلى إبقائه وتحريم الصدقة بما يتوجه عليه دفعه في دينه وإن رجا وفاءه من جهة ظاهرة وبما تقرر أنه لا فرق بين الدين الحال والدين المؤخل وبين الزكاة وغيرها. وبحث ابن الرافعة وتبعه القمولي إلحاق المؤجل بما يحتاجه لنفقة عياله في المستقبل وأجاب عنه الأذرعي بأن الذمة مشغولة بالدين الآن بخلاف نفقة العيال في المستقبل. قال أعني الأذرعي ولم يقل فيما أظن أن من عليه صداق أو غيره أنه إذا تصدق برغيف ونحوه مما يقطع بأنه لو بقي لم يدفعه إلى جهة الدين أنه لا يستحب له التصدق به ولو قيل بكراهة الصدقة أو حرمتها على من عليه دين أي حال أو مؤجل سواء أرجة الوفاء أم لا لسد باب التطوع فإن غالب الناس لا يخلو ذمته من دين معمر أو غيره وحيث حرمة الصدقة بشيء لم يملكه المتصدق عليه على الأوجه كما التيمم تصح هبة من لزمته كفارة أو ديون ماء يملكه لإمكان الغرف بأن الهبة فيها عقد والحرمة لا تنافية لأنها ليست ذاتية له والصدقة ليس فيها ذلك أو لا ملك فيها إلا الأخذ وهو هنا حرام لذاته وما كان حراما لذاته لا يقتضي الملك. وبما ذكرته يعلم وما بحثه ابن الرافعة: أن الصدقة حيث حرمت كان في ملك الآخذ لها الخلاف في هبة الطهارة في الوقت وخالفه الأذرعي ففرق بأنه هنا تعلق به حق آدمي وهو نحو قريبه وتوجه عليه صرفه حالا بخلاف الماء عند اتساع الوقت أو عند ضيقه لأن له بدلا وهو التراب أي فلا يملكه هنا جزما. الثالثة والثلاثون من دفع إلى وكيله أو ولده أو غلامه أو غيرهم شيئا ليعطيه سائلا أو غيره صدقة تطوع لم يزل ملكه عنه حتى يقبضه المبعوث إليه فإن لم ينفق دفعه إلى ذلك المعين استحب له أن لا يعود فيه بل يتصدق على غيره فإن استرده وتصرف فيه جاز لأنه باق على ملكه. الرابعة والثلاثون في مواضع متفرقة يكره لمن تصدق بشيء صدقة تطوع أو هبة أو دفعه إلى غيره زكاة أو كفارة أو نذرا أو غيرها من وجوه الطاعات أن يتملكه من المدفوع إليه بعينه بمعاوضة أو هبة ولا يكره ملكه منه بالإرث ولا أن يتملكه من غيره إذا انتقل إليه واستدلوا في المسالة بحديث عمر رضي الله تعالى عنه قال: (حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده فأردت أن أشتريه منه وظننت أنه بائعة برخص فسألت النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم فإن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه). رواه الشيخان. وتملك جزء الصدقة كتملك كلها فيكره أخذا من قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعمر في قصته السابقة لا تشتره من نتاجه أي أن ولد الحيوان جزء منه ولا ينافيه قول البغوي: ليس من ذلك أن يشتري من غلة أرض كان تصدق به لأنها غير العين المتصدق بها أي وغير جزئها. وبحثه الزركشي أن محل الكراهة فإن الآخذ يسامحه فيكون كالراجع في شيء من صدقته أن لا تتأتى المسامحة بأن اشتراه منه بأضعاف قيمته انتفت الكراهة أيضا وهو محتمل. الخامسة والثلاثون على أنه ينبغي للمتصدق أن لا يطمع في دعاء المتصدق عليه فإن دعي له ندب له أن يجيئه بمثله. السادسة والثلاثون قال في المجموع كالروضة قال في الإحياء اختلف السلف في أن المحتاج هل الأفضل له أن يأخذ من الزكاة أو صدقة التطوع. وكان الجنيد وإبراهيم الخواص وجماعة رضي الله تعالى عنهم يقولون: الأخذ من الصدقة أفضل لئلا يضيف محل أصناف الزكاة ولئلا يخل بشرط من شروط الأخذ بخلاف الصدقة فإن أمرها أهون من الزكاة. وقال الآخرون: الأخذ من الزكاة أفضل لأنه إعانة على واجب إذ لو ترك أهل الزكاة كلهم أخذها أثموا أي وقد تلوا لأن قبولها فرض كفاية ولأن الزكاة لا منة فيها. قال الغزالي: والصواب أنه يختلف بالأشخاص فإن عرض له شبهة في استحقاقه لم يأخذ الزكاة وإن قطع باستحقاقه نظر إن كان المتصدق إن لم يأخذها منه لا يتصدق فليأخذ الصدقة فإن إخراج الزكاة لا بد منه وإن كان لا بد من إخراج تلك الصدقة ولم يضيف بالزكاة تخير وأخذ وذكر أيضا اختلاف الناس في إخفاء أخذ الصدقة وإظهاره أيهما أفضل مع أن في كل واحد منهما فضيلة ومفسدة ثم قال: وعلى الجملة الأخذ في الملأ وترك الأخذ في الخلاء أحسن. انتهى كلام المجموع. السابعة والثلاثون قال في المجموع قال صاحب الغايات لو نذر صوما أو صلاة في وقت بعينه لم يجز فعله قبله كما لو عجل الزكاة أي بجامع أن كلا عبادة مالية فيفتقر فيها ما لا يفتقر في العبادة البدنية. الثامنة والثلاثون أفتى القفال بأن من دفع مالا لفقيه ليدفعه لتلامذته لزمته التسوية بينهم إلا إن قال له: أنت أعلم بهم فله التخليص والتفضيل. انتهى. ولك أن تقول: إذا جاز له التخليص والتفضيل فهل يجب عليه مراعاة مقتضى ذلك من الأحوجية وزيادة الصفات التي يقصد التصدق لأجلها أوله ذلك بحسب ما يريد فيه نظر
|